الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)
.الضرب الثامن من السلخ: وهو أن يؤخذ المعنى ويسبك سبكا موجزا: وذلك من أحسن السرقات، لما فيه من الدلالة على بسطة الناظم في القول، وسعة باعه في البلاغة، فمن ذلك قول بشار:أخذه سلم الخاسر، وكان تلميذه فقال: فبين البيتين لفظتان في التأليف ومن هذا الأسلوب قول أبي تمام: أخذه ابن الرومي فقال: وكذلك ورد قول أبي نواس: أخذه ابن الرومي فقال: وعلى هذا ورد قول ابن الرومي: أخذه بعض شعراء الشام، وهو ابن قسيم الحموي، فقال: ولقيت جماعة من الأدباء بالشام، ووجدتهم يزعمون أن ابن قسيم هو الذي ابتدع هذا المعنى، وليس كذلك، وإنما هو لابن الرومي.ومما يجري هذا المجرى قول أبي العتاهية: أخذه أبو تمام فقال: فأوجز في هذا المعنى غاية الإيجاز.ومما يجري على هذا النهج قول أبي تمام: أخذه أبو الطيب المتنبي فأوجز، حيث قال: وكذلك قولهما في موضع آخر، فقال أبو تمام: أخذه أبو الطيب فزاد وأحسن حيث قال: ومن هذا الضرب قول بعض الشعراء: أخذه أبو الطيب المتنبي فقال: .الضرب التاسع من السلخ: وهو أن يكون المعنى عاما فيجعل خاصا، أو خاصا فيجعل عاما: وهو من السرقات التي يسامح صاحبها، فمن ذلك قول الأخطل:أخذه أبو تمام فقال: وهذا من العام الذي جعل خاصا، ألا ترى أن الأول نهى عن الإتيان بما ينهى عنه مطلقا، وجاء بالخلق منكرا فجعله شائعا في بابه، وأما أبو تمام فإنه خصص ذلك بالبخل وهو خلق واحد من جملة الأخلاق.وأما جعل الخاص عاما فكقول أبي تمام: أخذه أبو الطيب المتنبي فجعله عاما إذ يقول: .الضرب العاشر من السلخ: وهو زيادة البيان مع المساواة في المعنى: وذلك أن يؤخذ المعنى فيضرب له مثال يوضحه، فمما جاء منه قول أبي تمام:أخذه أبو الطيب المتنبي فأوضحه بمثال ضربه له وذلك قوله: وهذا من المبتدع، لا من المسروق، وما أحسن ما أتي بهذا المعنى في المثال المناسب له.وكذلك قولهما في موضع آخر فقال أبو تمام: أخذه أبو الطيب المتنبي فقال: ومما ينخرط في هذا السلك قول أبي تمام: أخذه أبو عبادة البحتري فقال: فإنه أتى بالمعنى مضروبا له هذا المثل الذي أوضحه وزاده حسنا. .الضرب الحادي عشر من السلخ: وهو اتحاد الطريق واختلاف المقصد: ومثاله أن يسلك الشاعران طريقاً واحدة، فتخرج بهما إلى موردين أو روضتين وهناك يتبين فضل أحدهما على الآخر.فمما جاء من ذلك قول أبي تمام في مرثية بولدين صغيرين:وقال أبو الطيب في مرثية بطفل صغير: فتأمل أيها الناظم إلى ما صنع هذان الشاعران في هذا المقصد الواحد، وكيف هام كل واحد منهما في واد منه، مع اتفاقهما في بعض معانيه.وسأبين لك ما اتفقا فيه، وما اختلفا وأذكر الفاضل من المفضول فأقول: أما الذي اتفقا فيه فإن أبا تمام قال: وأما أبو الطيب فإنه قال: فأتى بالمعنى الذي أتى به أبو تمام، وزاد عليه بالصناعة اللفظية، وهي المطابقة في قوله صمت اللسان ومنطق الفصل.وقال أبو تمام: وقال أبو الطيب: فوافقه في المعنى وزاد عليه بقوله: لأنه بين قدر حاجتهم إلى وجوده وانتفاعهم بحياته.وأما ما اختلفا فيه فإن أبا الطيب أشعر فيه من أبي تمام أيضا، وذاك أن معناه أمتن من معناه، ومبناه أحكم من مبناه، وربما أكبر هذا القول جماعة من المقلدين الذين يقفون مع شبهة الزمان وقدمه، لا مع فضيلة القول وتقدمه، وأبو تمام وإن كان أشعر عندي من أبي الطيب فإن أبا الطيب أشهر منه في هذا الموضع، وبيان ذلك أنه قد تقدم على ما اتفقا فيه من المعنى، وأما الذي اخلتفا فيه فإن أبا الطيب قال: وهذا البيت بمفرده خير من بيتي أبي تمام اللذين هما: فإن قول أبي الطيب والشدائد للنصل أكرم لفظا ومعنى من قول أبي تمام:إن الثقل يضاعف من المطايا، وقوله أيضا: وهذا أشرف من بيتي أبي تمام اللذين هما: وكذلك قال أبو الطيب: وهذان البيتان خير من بيتي أبي تمام اللذان هما: واعلم أن التفضيل بين المعنيين المتفقين أيسر خطبا من التفضيل بين المعنيين المختلفين.وقد ذهب قوم إلى منع المفاضلة بين المعنيين المختلفين، واحتجوا على ذلك بأن قالوا: المفاضلة بين الكلامين لا تكون إلا باشتراكهما في المعنى، فإن اعتبار التأليف في نظم الألفاظ لا يكون إلا باعتبار المعاني المندرجة تحتها، فما لم يكن بني الكلامين اشترك في المعنى حتى يعلم مواقع النظم في قوة ذلك المعنى أو ضعفه أو اتساق ذلك اللفظ أو اضطرابه وإلا فكل كلام له تأليف يخصه بحسب المعنى المندرج تحته، وهذا مثل قولنا: العسل أحلى من الخل، فإنه ليس في الخل حلاوة حتى تقاس حلاوة العسل عليها.وهذا القول فاسد، فإنه لو كان ما ذهب إليه هؤلاء من منع المفاضلة حقا لوجب أن تسقط التفرقة بين جيد الكلام ورديئه وحسنه وقبيحه، وهذا محال وإنما خفي عليهم ذلك لأنهم لم ينظروا إلى الأصل الذي تقع المفاضلة فيه، سواء اتفقت المعاني أو اختلفت ومن هاهنا وقع لهم الغلط.وسأبين ذلك فأقول: من المعلوم أن الكلام لا يختص بمزية من الحسن حتى تتصف ألفاظه ومعانيه بوصفين هما الفصاحة والبلاغة، فثبت بهذا أن النظر إنما هو في هذين الوصفين اللذين هما الأصل في المفاضلة بين الألفاظ والمعاني على اتفاقهما واختلافهام فمتى وجدا في أحد الكلامين دون الآخر أو كانا أخص به من الآخر حكم له بالفضل.وقرأت في كتاب الأغاني لأبي الفرج في تفضيل الشعر أشياء تتضمن خبطا كثيرا، وهو مروي عن علماء العربية لكن عذرتهم في ذلك، فإن معرفة الفصاحة والبلاغة شيء خلاف معرفة النحو والإعراب.فمما وقفت عليه أنه سئل أبو عمرو بن العلاء عن الأخطل فقال: لو أدرك يوما واحدا من الجاهلية ما قدمت عليه أحدا، وهذا تفضيل بالأعصار، لا بالأشعار، وفيه ما فيه ولولا أن أبا عمرو عندي بالمكان العلي لبسطت لساني في هذا الموضع.وسئل جرير عن نفسه وعن الفرزدق والأخطل، فقال أما الفرزدق ففي يده نبعة من الشعر وهو قابض عليها وأما الأخطل فأشدنا اجتراء وأرمانا للقرائض، وأما أنا فمدينة الشعر. وهذا القول قول إقناعي لا يحصل منه على تحقيق، لكنه أقرب حالا مما روي عن أبي عمرو بن العلاء.وسئل الأخطل عن أشعر الناس، فقال: الذي إذا مدح رفع، وإذا هجا وضع، فقيل: فمن ذاك؟ قال: الأعشى، قيل: ثم من؟ قال: طرفة، وهذا قول فيه بعض التحقيق، إذ ليس كل من رفع بمدحه ووضع بهجائه كان أشعر الناس لأن المعاني الشعرية كثيرة والمدح والهجاء منها.وسئل الشريف الرضي عن أبي تمام وعن البحتري وعن أبي الطيب، فقال: أما أبو تمام فخطيب منبر، وأما البحتري فواصف جؤذر وأما المتنبي فقاتل عسكر، وهذا كلام حسن واقع في موقعه فإنه وصف كلا منهم بما فيه من غير تفصيل ويروى عن بشار أنه وصف نفسه بجودة الشعر والتقدم على غيره، فقيل له: ولم ذاك؟ فقال: لأني نظمت اثني عشر ألف قصيدة وما تخلو واحدة منهن من بيت واحد جيد، فيكون لي حينئذ اثنا عشر ألف بيت، وقد تأملت هذا القول فوجدته على بشار لا له، لأن باقلا الذي يضرب به المثل في العي لو نظم قصيدا لما خلا من بيت واحد جيد، ومن الذي ينظم قصيدا واحدا من الشعر ولا يسلم منه بيت واحد؟ لكن كان الأولى ببشار أن قال: لي اثنتا عشرة ألف قصيدة ليس واحدة منهن إلا وجيدها أكثر من رديئها، وليس في واحدة منهن ما يسقط، فإنه لو قال ذلك وكان محقا لاستحق التقدم على الشعراء ومع هذا فقد وصل إلي ما في أيدي الناس من شعره مقصدا ومقطعا فما وجدته بتلك الغاية التي ادعاها، لكن وجدت جيده قليلا بالنسبة إلى رديئه، وتندر له الأبيات اليسيرة.وبلغني عن الأصمعي وأبي عبيد وغيرهما أنهم قالوا: هو أشعر الشعراء المحدثين قاطبة، وهم عندي معذورون لأنهم ما وقفوا على معاني أبي تمام، ولا على معاني أبي الطيب، ولا وقفوا على ديباجة أبي عبادة البحتري، وهذا الموضع لا يستفتى فيه علماء العربية، وإنما يستفتى فيه كاتب بليغ، أو شاعر مفلق، فإن أهل كل علم أعلم به، وكما لا يسأل الفقيه عن مسألة حسابية فكذلك لا يسأل الحاسب عن مسألة فقهية، وكما لا يسأل النحوي عن مسألة طبية كذلك لا يسأل الطبيب عن مسألة نحوية، ولا يعلم كل علم إلا صاحبه الذي قلب ظهره لبطنه وبطنه لظهره.على أن علم البيان من الفصاحة والبلاغة محبوب إلى الناس قاطبة، ما من أحد إلا ويحب أن يتكلم فيه، حتى إني رأيت أجلاف العامة ممن لم يخط بيده ورأيت أغتام الأجناس ممن لا ينطق بالكلمة صحيحة كلهم يخوض في فن الكتابة والشعر، ويأتون فيه بكل مضحكة، وهم يظنون أنهم عالمون به، ولا لوم عليهم فإنه بلغني عن ابن الأعرابي وكان من مشاهير العلماء أنه عرض عليه أرجوزة أبي تمام اللامية التي مطلعها: وقيل له: هذه لفلان من شعراء العرب، فاستحسنها غاية الاستحسان وقال: هذا هو الديباج الخسرواني، ثم استكتبها، فلما أنهاها قيل له: هذه لأبي تمام، فقال: من أجل ذلك أرى عليها أثر الكلفة، ثم ألقى الورقة من يده، وقال: يا غلام خرق، فإذا كان ابن الأعرابي مع علمه وفضله لا يدري أي طرفيه أطول في هذا الفن ولا يعلم أين يضع يده فيه ويبلغ به الجهل إلى أن يقف مع التقليد الشنيع الذي هذا غايته فما الذي يقول غيره؟ وما الذي يتكلم فيه سواه؟ والمذهب عندي في تفضيل الشعراء أن الفرزدق وجريرا والأخطل أشعر العرب أولاً وأخرا، ومن وقف على الأشعار ووقف على دواوين هؤلاء الثلاثة علم ما أشرت إليه، ولا ينبغي أن يوقف مع شعر امرئ القيس وزهير والنابغة والأعشى، فإن كلا من أولئك أجاد في معنى اختص به، حتى قيل في وصفهم: امرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب وزهير إذا رغب، والأعشى إذا شرب، وأما الفرزدق وجرير والأخطل فإنهم أجادوا في كل ما أتوا به من المعاني المختلفة وأشعر منهم عندي الثلاثة المتأخرون، وهم أبو تمام، وأبو عبادة البحتري، وأبو الطيب المتنبي، فإن هؤلاء الثلاثة لا يدانيهم مدان في طبقة الشعراء أما أبو تمام وأبو الطيب فربا المعاني، وأما أبو عبادة فرب الألفاظ في ديباجتها وسبكها.وبلغني أن أبا عبادة البحتري سأل ولده أبا الغوث عن الفرزدق وجرير أيهما أشعر، فقال: جرير أشعر، قال؛ وبم ذلك؟ قال: لأن حوكه شبيه بحوكك، قال: ثكلتك أمك أو في الحكم عصبية؟ قال يا أبت، فمن أشعر؟ قال: الفرزدق، قال: وبم ذلك؟ قال: لأن أهاجي جرير كلها تدور على أربعة أشياء هي القين، والزنا وضرب الرومي بالسيف، والنفي من المسجد، ولا يهجو الفرزدق بسوى ذلك، وأما الفرزدق فإنه يهجو جريرا بأنحاء مختلفة ففي كل قصيد يرميه بسهام غير السهام التي يرميه بها في القصيد الآخر، وأنا أستكذب راوي هذه الحكاية، ولا أصدقه، فإن البحتري عندي ألب من ذلك، وهو عارف بأسرار الكلام، خبير بأوساطه وأطرافه، وجيده ورديئه، وكيف يدعي على جرير أنه لم يهج الفرزدق إلا بتلك المعاني الأربعة التي ذكرها وهو القائل: فجمع بين هجاء هؤلاء الثلاثة في بيت واحد.ولقد تأملت كتاب النقائض فوجدت جريرا رب تغزل ومديح وهجاء وافتخار، وقد كسا كل منعنى من هذه المعاني ألفاظا لائقة به ويكفيه من ذلك قوله: ولو لم يكن لجرير سوى هذه الأبيات لتقدم بها الشعراء.وسأذكر من هجاء الفرزدق ما ليس فيه شيء من تلك المعاني الأربعة التي أشار البحتري إليها فمن ذلك قوله: وقوله: وقوله: وقوله: وقوله: وقوله: وقوله: وقوله: وقوله: وقوله: ولجرير مواضع كثيرة في هجاء الفرزدق غير هذه، ولولا خوف الإطالة لاستقصيتها جميعها، ولو سلمت إلى البحتري ما زعم من أن جريرا ليس له في هجاء الفرزدق إلا تلك المعاني الأربع لاعترضت عليه بأنه قد أقر لجرير بالفضيلة، وذاك أن الشاعر المفلق أو الكاتب البليغ هو الذي إذا أخذ معنى واحد تصرف فيه بوجوه التصرفات، وأخرجه في ضروب الأساليب، وكذلك فعل جرير، فإنه أبرز من هجاء الفرزدق بالقين كل غريبة، وتصرف فيه تصرفا مختلف الأنحاء، فمن ذلك قوله: قوله: وقوله: فانظر أيها الواقف على كتابي هذا إلى هذه الأساليب التي تصرف فيها جرير وأدارها على هجاء الفرزدق بالقين، فقال أولا: إن أباه شغل عن المكارم بصناعة القيون، ثم قال ثانيا: إنه يبكي عليه ويندبه بعد الموت المرجل والبرمة الأعشار التي يصلحها، ثم قال ثالثا: إن أباك أورثك آلة القيون، وأورثني أبي رباط الخيل، وقد أورد جرير هذا المعنى على غير هذه الأساليب التي ذكرتها، ولا حاجة إلى التطويل بذلك هاهنا وهذا القدر فيه كفاية.وحيث انتهى بنا القول إلى هاهنا فلنرجع إلى النوع الذي نحن بصدد ذكره.
|